اداب طالب العلم
بقلم: نور فضلان زين الدين
الحمد لله ذي الوحدانية والكمال، الحمد لله المحمود على كل حال، الحمد لله المتصرف في الأحوال، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن استعاذ به أغناه ووقاه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اجتباه واصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه المبارك وارتضاه.
العلم أمانة عظيمة، ومسؤولية جليلة كريمة، تُبلَّغ بها رسالةُ الله، وتقام بها الحجة على عباد الله، فكم هَدى الله عز وجل بالعلم من الضلالات، وكم أخرج به من الظلمات، كم هَدى الله به أُمماً حارت، وكم هَدى به أمماً ضلت، كم أبكى لله عيوناً، وكم أخشع لله سبحانه وتعالى قلوباً وجفوناً.
العلم الشرعي هو نور الله، وهداية الله، ورحمة الله لهذه البشرية، هو معدنها الصافي، ومنبعها الذي لا يغيض، إنه السبيل الذي من سار فيه انتهى به إلى مرضاة الله وجنته.
امتنّ الله سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بالعلم، وشرّفه وكرّمه به، فكان به إمامهم وقدوتهم وهاديهم، صلوات الله وسلامه عليه.. وصدق الله إذ يقول: ((وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)) [النساء:113].
قال بعض العلماء: كان فضل الله عليك عظيماً حينما علمك ما لم تكن تعلم، وحينما أنقذك من الضلال، وهداك إلى الحق.. ((مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ)) [الشورى:52]، فالله علّمه ودلّه وهداه.. جلّ سبحانه في علاه..!
الفصل الأول : معالم في الأدب مع العلماء
نص العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي على طالب العلم أن يتحلى بأزين الحلل، وأن تكون فيه حلية طالب العلم في وقاره وفي خشوعه وسمته. قال الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله: (حق على طالب العلم أن تكون فيه سكينة ووقار، واتباع لأثر من مضى قبله).
إن طالب العلم إذا تزين بالآداب، وكان على أكرم الأخلاق، وجمّلها بالعلم، فإن الله يجمله بعد أن يصير عالماً، ولذلك نجد بعض العلماء مُهاباً جليلاً محبوباً، ولو نظرت إليه أثناء الطلب، لوجدته يهاب العلم ويجلّه، فبمقدار ما توفق إلى الآداب مع العلماء في مجلسهم ترزق من الطلاب مثله، فاجتهد -رحمك الله- في أن ينظر لك العالِم نظرة إجلال.
جلس الإمام أحمد بن حنبل يطلب العلم عند عبد الرزاق بن همام الصنعاني -رحمة الله عليهما- إمامان حافظان جليلان من علماء السلف وأئمتهم، حفظا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ووعياها، وكانا على جلال وفضل وكمال -رحمة الله عليهما-.
كان عبد الرزاق يتقي المزاح والطرفة إذا كان الإمام أحمد في مجلسه، وهذا أبلغ ما يكون من الوقار والجلال الذي ألبسه الله أهل العلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللتُ طالباً وعززتُ مطلوباً)(3)[9]).
وكان بعض السلف يكره أن يستند الطالب في مجلس العلم، كل ذلك إجلال ووقار للعلم وهيبة للعالم، وكانوا يشددون في مدّ الرِّجْل في مجلس العلم، ويشددون في الأمور التي تشعر بالاستخفاف بالعالِم أو بمجلس العلم.
مكانك عند الله وكرامتك عند الله على قدر ما ينشرح له صدرك من تلقي العلم، ولذلك ما أحب الله العلماء بشيء مثل إقبالهم على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإياك ثم إياك أن تكون زهيداً في كل علم تتعلمه، والله، كم من مسائل سمعناها من العلماء، ما كنا نظن إنه يأتي يوم من الأيام فيكون فيها نفع، حصل فيها من النفع ما الله به عليم، لا تزهد من العلم في شيء، فلعلك أن تسمع حكمة تنشرها، يحيي بها الله القلوب، ولعلك تسمع سنة فتحييها، فيكتب الله لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
احرص على كل محاضرة وندوة ومجلس علم أن تحمل منه سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولية أو فعلية أو اعتقادية، احرص على أن تتعلم ولو حديثاً واحداً، والله تعالى تكفل في كتابه لأهل العلم برفع الدرجات، تخرج من الدنيا ومكانتك عند الله على قدر ما حفظت من العلم، فطوبى لأقوام حفظوا كتاب الله وحفظوا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في صدورهم وقلوبهم، فخرجوا من الدنيا والله تبارك وتعالى راضٍ عنهم بذلك العلم والضبط، وبلغهم نفع ذلك العلم في قبورهم، فهم الآن في رياضها يتنعمون، وفي ما هم فيه من السرور والنعيم يغبطون ، فالله الله أن يزهد إنسان في خير من الله، احرص على الخير، واحرص على الانتفاع، ولذلك ما انتفع إنسان بسنة إلا نفعه الله بها ونفع بها غيره.
وكان السلف الصالح إذا أرادوا طلب العلم وطّنوا أنفسهم بالآداب الكريمة التي تحببهم إلى صدور العلماء.
قالت أم الإمام مالك بن أنس رحمه الله لما ألبسته العمامة وأمرَتْه أن يذهب إلى مجلس ربيعة بن عبد الرحمن، قالت له: (أي بني: اجلس مع ربيعة، وخذ من أدبه ووقاره وخشوعه قبل أن تأخذ من علمه).
فإذا وجدت طالب علم يحرص على الأدب في مجلس العلم، فاعلم أنه على سنة، ولربما فتح له العالم صدره وأقبل عليه؛ لأن الله جبل القلوب على محبة الأخلاق والآداب، وهي تدل على سمو النفوس وعلو همتها، وأنها تريد ما عند الله عز وجل، فلا يليق بطالب العلم أن يجلس في تلك المجالس لا يبالي بحرمتها، ولا يحسن التأدب مع أهلها.
الفصل الثاني : معالم في آداب طالب العالم في نفسه
المَعْلَمْ الأول: في تقوى الله.
المَعْلَمْ الثاني: في الإخلاص.
المَعْلَمْ الثالث: الإقبال على العلم بكليته.
المَعْلَمْ الرابع: الصبر وتحمل المشاق في الطلب.
المَعْلَمْ الخامس: حفظ الوقت واغتنامه.
المَعْلَمْ السادس: اختيار الرفقة في الطلب.
المَعْلَمْ السابع: الوصية بالرفقة.
المَعْلَمْ الثامن: الأدب وحسن الخلق.
المَعْلَمْ التاسع: أخذ العلم عن أهله.
المَعْلَمْ العاشر: الاهتداء بالكتاب والسنة.
المَعْلَمْ الحادي عشر: العمل بالعلم.
المَعْلَمْ الأول: تقوى الله
فإن تقوى الله ما كانت في قليل إلا كثرته، ولا في يسير إلا باركته، وصية الله للأولين والآخرين، وموعظة الله لعباده أجمعين، تقوى الله ما دخلت في قلب إلا أدمعت عينيه من خشية الله، وجعلت قلبه أسبق ما يكون إلى طاعة الله ومرضاته.
قال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي رحمه الله في كتابه الجامع: (جماع الخير كله تقوى الله، وأزين الحلى للعالم: تقوى الله)، أزين ما يتحلى به من تخلق بالعلم: أن تكون تقوى الله قد وقرت في صدره، واستقرت في فؤاده وقلبه، فعندها يكون أعفّ الناس لساناً، وأثبت الناس في طاعة الله ومرضاته، جناناً، تقوى الله عز وجل، التي ما خلت منها موعظة من مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا كلمة من كلماته، فكم وعظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءه الرجل يريد السفر، فقال له يستوصيه: (زوّدك الله التقوى)، فنعمَ -والله- الزاد، فهي زاد المهاجر إلى الله، وعدة عباد الله في طاعة الله، تكف الجوارح عن حدود الله، وتدعوها إلى المسارعة والمسابقة في طاعة الله.
فطالب العلم الصادق المتقي لله أبعد الناس عن المحارم، وأعفّ الناس عن الحرام، وأنزههم عن الفواحش والآثام، يخاف الله في سمعه، يخاف الله في بصره، يخاف الله في لسانه وفرجه، في جميع حركاته وسكناته.
فما أجمل طالب علم تسربل بسربال التقوى، واستمسك من الدين بالعروة الوثقى، وكان كريم القول والعمل، جميل الخصال والخلال، إذا نظرت إليه ذكّرك الكريم المتعال.
بتقوى الله ييسر الله لك طلب العلم، فما قذف الله نور التقوى في قلب إلا يسر أمره، وشرح صدره، وأحسن عاقبته وأمره.
قبيحٌ على طالب العلم أن يبدأ طلب العلم وفيه خصلة من خصال الجاهلية، وعيب -والله- على طالب العلم أن يطلب العلم ولم يبلّغ نفسه فعل الأمور المرضية، والتي من أجلّها تقوى الله ربّ البرية.
يا طالب العلم.. إنك إن اتقيت الله قَبِل منك: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) [المائدة:27].
ولما دخل عبد الله بن عمر على أبيه رضي الله عنهما في مرض موته، وقال: يا أبتِ.. ألم تكن تفعل وتفعل، وذكّره بتبشير النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة، قال له عمر رضي الله عنهما: يا بُني: إنما يتقبل الله من المتقين.
قال بعض العلماء:
قد آلم القلب أني جاهل مالي ... عند الإله أَراضٍ هو أم قالي
وأن ذلك مخبوءٌ إلى يوم ... اللقاء ومقفول عليه بأقفالِ
يا طالب العلم.. إنك إن اتقيت الله أحبك الله، ((بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [آل عمران:76].
يا طالب العلم.. إنك إن اتقيت الله كنتَ له ولياً، ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) [الجاثية:19].
يا طالب العلم.. خير خلة تتحلى بها أن ينظر الله إلى قلبك قد عُمّر بتقواه، تخاف الله في قولك، تخاف الله في عملك.
وإذا خرجتَ وأنت تحمل كتابك، ورمقتك الأبصار والأنظار، فاستشعر وأنت تحمل كتاباً من كتب الدين والملة أنك تمثل دين الله وشرع الله، فاتقِ الله واحفظ جوارحك عن كل شيء يشين العلم وأهله.
المَعْلَمْ الثاني: الإخلاص لله
وهو ثمرة من ثمرات التقوى، إنه سرّ بينك وبين الله، لا يعلمه أحد سوى الله. هذه الوصية التي رفع الله عز وجل بها العلماء، فماتوا وما مات علمهم، وارتحلوا وما ارتحلت فضائلهم ومآثرهم لما علم الله إخلاصهم بقيت كتبهم كأنها كتبت بالأمس القريب، تنفذ وتطبع، وتنفذ وتطبع، بقيت علومهم تغشاهم بها الرحمات آناء الليل وأطراف النهار. إنها العبودية الصادقة لله.
قال بعض أهل العلم -رحمهم الله-: الإخلاص هو الإسلام؛ لأن الإسلام هو الاستسلام لله وحده لا لشيء سواه، فأي طالب علم أخلص لله في طلبه، وكان يرجو الله عز وجل في قوله وعمله، فهو مسلم بحق، وهو طالب علم بصدق، وكم من أقوال قليلة عظمتها النية، وكم من أقوال كثيرة محق الله بركتها وعادت وبالاً على أصحابها لما خرجت لغير الله، وأريد بها غيره، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إخلاص العمل هو الدين لله، الذي لا يقبل الله ديناً سواه. وقال في موضع آخر: وهو خلاصة الدعوة النبوية، وقطب القرآن الذي تدور عليه رحاه، واستشهد بقول الله تبارك وتعالى: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)) [الزمر:1-3]. ألا لله العبودية والأقوال والأعمال الخالصة لوجهه.
إخلاص العمل لله أن يأخذ هذا النور وهو يرجو رحمة الله في كل كلمة يسمعها ويقولها ويكتبها ويفهمها، فتكون أشجانه وأحزانه لله جل جلاله، فلا يزال بهذا الإخلاص تُخط به في صحيفة عمله الحسنات، ويُستوجب له بها عند الله رفعة الدرجات، يغدو إلى مجالس العلم فينظر الله في قلبه وهو جالس مع العلماء، ومذاكرة طلاب العلم، وهو لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، فلا يزال يحبه الله ويكرمه ويرفعه ويعظم أجره ويحسن العاقبة له في العلم.
فمن كمل إخلاصه لله، فإن الله يوفقه ويسدده ويرحمه، ويجعل عمله نفعاً له في دينه ودنياه وآخرته.
المَعْلَمْ الثالث: الإقبال على العلم بكليته
أن نفتح لهذا العلم أسماعنا وقلوبنا، وأن نحس أن هذه الآذان تتشرف وتُكرم بسماع كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أن ينطلق طالب العلم وقلبه يشتعل شوقاً لمجالس العلم، فينفتح قلبه وقالبه لماء الوحي، حتى إذا نزل ذلك الماء على القلب، كان كالغيث الطيب في الأرض الطيبة، وما من طالب علم يقبل بكليته على العلم بهذه الكيفية إلا نفعه الله به، ولذلك كانت أول وصية من الله عز وجل لنبي الله موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: ((وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)) [طه:13].
من الإقبال بالكلية على العلم أن ننطلق إلى رياض الجنة ننافس إخواننا، ونسابق فيها خلاننا، فلا يسأم وهو في مجلس العلم، ولا يملّ ولا يفتر.. ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)) [المزمل:5]، فالعلم ثقيل، ويحتاج إلى عزيمة وقوة وصبر وجَلَد وجمع البال له، ولذلك قال نبي الله موسى بن عمران -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)) [طه:25-26]، فالأمر جد عظيم.. والتناوم والتكاسل والخمول لا يليق بطالب العلم.. والمحروم من حُرِم.
وكان بعض العلماء يشنّع على من يستاك في مجلس العلم حتى لا يصرف باله عن العلم الذي جلس فيه، والله تعالى يقول: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)) [الأحزاب:4].
وهكذا كان إقبال الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا أطرقوا كأن على رؤوسهم الطير، ما كانوا يستاكون، ولا كانوا ينشغلون، وفي الحكمة (أعطِ العلم كلك يُعطِك بعضه)، فكيف إذا أعطاه الإنسان بعضه ؟
المَعْلَمْ الرابع: الصبر وتحمل المشقة في الطلب
وهذا المَعْلَم الذي ذكرناه أن العلم لابد فيه من المهانة، ولا بد فيه من التعب والنصب، تدل عليه السنة الصحيحة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الوحي، أخبرت رضي الله عنها أن جبريل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فغطه حتى بلغ منه ذلك المبلغ.
يقول بعض العلماء: إن جبريل غط النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حتى رأى الموت -صلوات الله وسلامه عليه- وكان بالإمكان في أول مرة أن يقول له: اقرأ باسم ربك الذي خلق، قالوا: حتى يعرف طالب العلم أن العلم لا ينال إلا بالمهانة والتعب وبالنصب.
المَعْلَمْ الخامس: حفظ الوقت واغتنامه
فإضاعة الوقت من أعظم المصائب على طالب العلم، أعز شيء يملكه طالب العلم: الوقت، والذي يريد العلم يحفظ وقته.
وكان الوالد رحمه الله إذا ذكر عنده أحد -يعني من طلاب العلم- يقول: نِعْمَ طالب العلم؛ لأنه يراه حريصاً على وقته، وإذا رآه طالب علم كثير الزيارة للناس، كثير الاشتغال بفضول الدنيا، لا يعدّه طالب علم بحق؛ لأن مفتاح طلب العلم الحفاظ على الوقت.
أذكر أنه رحمه الله كان بمجرد ما يدخل البيت يستفتح -إن كان الوقت وقت صلاة- فيصلي ما كُتب له، لا أذكر أنه دخل وجلس على فراشه في حياتي كلها معه، فيدخل ثم ينقلب على كتبه، ويقرأ فيها ما شاء الله له أن يقرأ، حتى إنه في بعض الأحيان يستمرّ إلى قرابة منتصف الليل.
طالب العلم أعز شيء عنده: الوقت، خاصة إذا خرج في طلب العلم من مدينته إلى مدينة ثانية، ما ترك والديه، ولا ترك إخوانه ولا قرابته، ما تركهم عبثاً، ينبغي أن يحترق في قرارة قلبه على كل ساعة تضيع.
المَعْلَمْ السادس: اختيار الرفقة في الطلب
ومن الأمور التي كان العلماء يوصون بها طالب العلم أنه يبحث عن قرين صالح يعينه على طلب العلم.. يبحث عن شاب خيّر صالح، يعرف فيه الهمة والنشاط، فيتخذه بطانة له على الخير، ويشدّ من أزره، وكل منهما ينصح لأخيه، حتى يكونا من المرحومين الذين سمّى الله جل جلاله.
وكان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- يعرفون أثر الرفقة في طلب العلم من الإعانة على الخير، قال تعالى عن نبيه موسى لما أوحى إليه بالرسالة: ((وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا)) [طه:29-35].
المَعْلَمْ السابع: الوصية بالرفقة
لإخوانك في طلب العلم حق عليك عظيم، وواجب تجاههم جسيم، ينبغي إذا آخيت طالب العلم أن تشعره بالمحبة والمودة، ويتخلل الصحبة شيء من الوفاء ومن النقاء ومن الصفاء، بعيدة عن محقرات الأمور التي تكون فيها النفرة وتفريق القلوب، وكان طلاب العلم في القديم ترى بينهم التواضع والألفة.
كنت أجلس عند الوالد، ويجلس غيري عند غيره، فإذا كان قبل أذان العشاء بما يقرب ربع الساعة انتهى درس الوالد رحمه الله، فيأتيني هذا من حلقة ذاك وذاك، فنجلس، والله لا نشعر بيننا بفرقة، ولا يَنْتَقِصْ أحد منا شيخ الآخر، كل منا يسأل الآخر: ما الذي قال شيخك؟ حتى يستفيد منه وحتى يأخذ عنه، وتجد القلوب كالقلب الواحد، والنفوس متآلفة متراحمة متعاطفة.
والله وَصَفَ العوام من المؤمنين بأنهم متراحمون، وأنهم متعاطفون، فطلاب العلم أولى بالاتصاف بهذه الخصلة منهم. والجفاء والإعراض هذا ليس من خلق طلاب العلم.
المَعْلَمْ الثامن: الأدب وحسن الخلق
الأدب نعمة من نِعم الله جل وعلا، ورحمةٌ يرحم الله بها عبده الذي يريد به خيري الدنيا والآخرة، ولو لم يكن في الأدب والخُلق الحسن إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أثقل شيء في الميزان، قال: (تقوى الله وحسن الخُلق).
فطالب العلم يوطّن نفسه على مكارم الأخلاق ويسمو بنفسه إلى فضائلها وإلى معالي الأمور، ويترفع عن سفاسِفِها، فإذا أراد الله بالعبد الخير رزقه حلية العلم وجماله ووقاره وزينته وبهاءه، وهو الأدب وحسن الخُلق، فما أجملَ طالب العلم إذا ضمّ إلى علمه السكينة والوقار.
والحِلم والأناة والتواضع.. وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي يُحبّها الله ويحبُّ أهلها، قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة).
فالحِلم والأناة كلاهما من مكارم الأخلاق، فيكْمُل طالب العلم ويجمُلُ ويعْظُم ويحْسُن إذا زيّنه الله جل وعلا بزينة التقوى، وألبسه الله حلية مكارم الأخلاق، فإذا رأيت آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله وآدابه -صلوات الله وسلامه عليه- تظهر من ذلك العبد الصالح في وجهه.. وفي كلامه.. وفي معاملته.. وفي أخذه وعطائه.. وظاهره وباطنه مع الناس، فاعلم أنه على هذى مستقيم.
ومن الخُلق الحسن أن يرى الله قلباً نقياً تقياً بريئاً يخافه سبحانه وتعالى في عباده المؤمنين.
وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا).
المَعْلَمْ التاسع: أخذ العلم عن أهله
مما يوصى به طالب العلم أن يأخذ العلم عن أهله، أن يبحث عن العالم العامل الذي يذكّرك الله مخبره ومظهره، فوالله ما بحثت عن عالم صادق في علمه آخذ العلم عن أهله إلا اتصل سندك بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أتيت يوم القيامة وقيل لك: لما أفتيت بكذا وكذا، فتقول: يا رب.. أخبرني فلان عن فلان حتى يتصل سندك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (رضيت بمالك حجةً بيني وبين الله)، يعني إذا سألني الله يوم القيامة عمن أخذت العلم، قلت: عن مالك، ومن هو مالك؟ إنه ذلك الوعاء الذي قال فيه بعض أهل الحديث في زمانه: إنه المعنيّ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، فلا يجدون عالماً إلا عالم المدينة).
روى مسلم في صحيحه عن الإمام محمد بن سيرين، فقيه التابعين أنه قال: (أيها الناس! إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذوا دينكم).
المعْلَمْ العاشر: الاهتداء بالكتاب والسنة
فلا خير في العلم إذا لم يُصحب بالاهتداء بالكتاب والسنة، إنهما أساس العلوم ومنبعهما؛ وقد تكفل الله لمن اتبعهما بألا يضلّ أبداً ولا يشقى، تكفل الله لمن تمسك بوحيه بالسعادة وحسن الغاية وعظيم الرضا ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ...)) [الإسراء:9] الآية.
من اهتدى بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سار على الصراط المستقيم، والمنهج القويم، وعصمه الله من الفتن، وحفظه من المحن، وجعل في قلبه طمأنينةً، وفي صدره انشراحاً. ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) [الأنعام:153].
فالناس تضلّ وهو يهتدي، والناس تنحرف وهو يسير على المنهج ((كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)) [الفرقان:32]، حتى يلقى الله جل جلاله... يلقاه بكتابه المبين، فإذا بالقرآن أمامه شفيعاً له بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإن القرآن حجّاجٌ لصاحبه بين يدي الله تعالى، حتى ينتهي به إلى الجنة.
فاتباع القرآن والسنة هو الاهتداء الحقيقي. ((وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].
فالعبد الذي يريد أن يبارك له في علمه، يعضّ بنواجذه على الكتاب والسنة، واتباع هذه الشريعة والملة.
فإذا تشعبت الآراء، وتباينت الأهواء، وكثرت المحن، وادلهمّت الفتن، وجد وحي الله منيراً مشرقاً، ليست به ضلالة ولا غواية.
المَعْلَمْ الحادي عشر: العمل بالعلم
أن يترجم هذا العلم للواقع، أن يخرجه الإنسان من قرار القلب إلى القالب، ومن الأقوال إلى الأفعال، يتمسك به ويطبقه ويلتزمه. ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ)) [الزخرف:43].
فإذا تعلم طالب العلم سنة أو حكمة، تمسك بها وعمل بها أشهد الله على أنه من أهلها، إن ترجمة العلم إلى الجوارح حياته، وكم من سنن أحييت لما خرج طلاب العلم فنشروها أمام الأمة بلسان الحال والمقال، قال الله تعالى عن علماء بني إسرائيل: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24].
بعض طلاب العلم الذين شرح الله صدرهم للعلم والعمل إذا رأيتهم ذكّرتك بالله رؤيتهم.
العمل بالعلم كمال للإنسان، وأعظم ما يعين على ضبط العلم ووضع البركة فيه.
قالوا في الحكمة: اعمل بالحديث مرة، تكن من أهله. فمن عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم.
من الأخطاء أن يستهين الطالب بالسنة في التطبيق، يقول: هذا سنة وليس بواجب، نعم ليس بواجب ولكن في حق طالب العلم الذي ينبغي أن يكون أكمل وأحرص له شأن آخر، وليس العلم للحفظ، وإنما هو للعمل.
قال بعض السلف: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل).
الفصل الثالث : معالم في آداب طالب العلم في درسه
المَعْلَمْ الأول: أخذ العلم فنّاً فنّاً.
المَعْلَمْ الثاني: الاجتهاد في ضبط العلم.
المَعْلَمْ الثالث: عدم الاستعجال في النزول للساحة.
المَعْلَمْ الأول: أخذ العلم فنّاً فنّاً
فإن أفضل شيء أخذ الفن الواحد وإتقانه، ثم يأخذ غيره.
قال البعض:
وفي ترادف الفنون المنع جا ... ... إذ توأمان اجتمعا لن يَخرجا
فضبط الفن الواحد، ثم ضبط ما سواه أنفع، ويستثنى من هذا الأصل إذا كان عند الطالب ملكة قوية في الضبط وتفرّغ، واستطاع أن يجمع بين فنين أو أكثر، فلا حرج؛ لأن الملكة تختلف، أو كان طالب العلم لا يجد في بلده ولا يتيسر له وجود العلماء، فيتغرّب السنة والسنتين في ديار العلم، فيحتاج أن يقرأ أكثر من فن وعلم؛ لأنه محتاج إلى ذلك، فهذا لا حرج عليه أن يجمع بين علمين.
المَعْلَمْ الثاني: الاجتهاد في ضبط العلم:
كم نجلس من مجالس الدنيا، فنسمع فيها فضول الأحاديث والأخبار، ولو سألت الواحد عن خبر من الأخبار لقصه عليك لا يخرم منه حرفاً واحداً.
ثم نجلس مع العلماء الأجلاء وأهل الفضل الذين هم على علم بالكتاب والسنة، ينثرون درر الكتاب والسنة، ولا نرفع بذلك رأساً!
والله إذا بلغ الإنسان إلى هذا المقام فليبكي على نفسه؛ لأن الله حرَمِه التوفيق، إذا جلست في مجالس العلم فرأيت قلبك لم يعي ذلك العلم، فابكِ على نفسك، فلعل ذنباً حال بينك وبين ذلك الخير.
ومما يعين الطالب على ضبط العلم: استشعاره أن كل حكمة يضبطها أنها قربةٌ وطاعةٌ لله تعالى، فيشفق على نفسه من أن تفوته فائدة واحدة يحفظها غيره وهو لم يحفظها، فلعله يقوم من المجلس وهو أرفع قدراً عند الله سبحانه وتعالى منه، فيحرص على أن لا تفوته كلمة، ولا يفوته ضبط لمسألة أو تحليل لقاعدة في ذلك المجلس، وهذا من محبة الله للعبد، فإذا رأيت الله جل جلاله يشرح صدر طالب العلم فلا تفوته كلمة، ولا تفوته نادرة، يضبط حق الضبط، ويحصل حق التحصيل، فاعلم أن الله سيبارك في علمه، ولذلك ما نبغ من السلف ولا أشتهر من الأئمة إلا من كان بهذه المثابة، وربما أتاهم الخبر أن للعالم فلاناً مجلساً عُقد لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد كذا، فيتركون طعامهم، وينطلقون إلى ذلك العالم لضبط العلم، كل ذلك طلباً لمرضاة الله.
المَعْلَمْ الثالث: عدم الاستعجال في النزول للساحة
فإطالة الوقت في الطلب فيها خير كثير للطالب، والذي أضر الكثيرين خروجهم إلى الساحة، ولما يأخذوا قسطاً من كمال العلم فأضرَّوا باستعجالهم، ولم يثق الناس بعلمهم، وفي الحكمة: (حب الظهور قصم الظهور).
وكان العلماء -رحمة الله عليهم- يعنون بإطالة الزمن في الطلب. وفي أبيات الشافعي المشهورة ما يؤيد أن من شروط نيل العلم طول الزمن في الطلب:
أخي لن تنالَ العلمَ إلا بستةٍ ... سأنبيكَ عن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبُلغةٌ ... وصحبةُ أستاذٍ وطول زمانِ
وهذا الإمام عبد الله بن وهب من أصحاب الإمام مالك -رحمة الله على الجميع- تفقه على الإمام مالك خمسة وعشرين سنة.. ربع قرن، سبحان الله، ونحن نستكثر ثلاث سنوات في كتاب معين.
والمنهج الذي تعلمت عليه هو إطالة الوقت في زمن الطلب.
أذكر أني قرأت سنن الترمذي على الوالد -رحمة الله عليه- في أربع سنوات، في كل ليلة درس، وصحيح مسلم في ست سنوات، في كل ليلة درس، ما عدا يومي الثلاثاء والجمعة، والموطأ في ثلاث سنوات ونصف، وصحيح البخاري ابتدأت مع الوالد واستمريت معه أكثر من عشر سنوات، وتوفي رحمه الله ولم أكمله عليه.
الفصل الرابع : معالم في بعض أحكام الفتوى
تمهيد: في أهمية مقام الفتوى.
المَعْلَمَ الأول: الإخلاص في النية.
المَعْلَمَ الثاني: البصيرة وضبط العلم.
المَعْلَمَ الثالث: تحصيل الورع.
المَعْلَمَ الرابع: معرفة المصالح والمفاسد المترتبة على الفتوى.
المَعْلَمَ الخامس: تحصيل الخشية من الله.
المَعْلَمَ السادس: معرفة حال المستفتي.
تمهيد : في أهمية مقام الفتوى
الحديث في هذه (الأسطر) عن ثغر من ثغور الإسلام، تبيِّن به الشريعة والأحكام، عن ذلك الثغر العظيم الذي تولى الله -جل وعلا- أمره من فوق سبع سماوات، ألا وهو الفتيا.
هذا الثغر الذي تتعطش الأمة في كل زمان ومكان إلى أهله ورجاله، الذين نور الله قلوبهم بالعلم،وشرح صدورهم بالعلم والحكمة والإيمان، فجعلهم به هداة مهتدين، يقولون الحق وبه يعدلون، هذا المقام العظيم الذي يقوم به المسلم مبلّغاً لشرع الله ودين الله عز وجل، فما أشرفه من مقام، وما أعظمه من ثغر جليل المرام، يوم يقف الإنسان لكي يبيّن الحلال والحرام ويفصّل الشريعة والأحكام، على نور من الله وهدى من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أخبر الله جل وعلا أنه تولى هذا المقام العظيم بنفسه، فقال في كتابه الكريم: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ)) [النساء:176]، يوم نزلت هذه النازلة برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فتولى الله جوابها وحلها ودفع إشكالها، وقد تقلدها رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حين بين حلال الله وحرامه، وشرعه ونظامه، فهدى الله به الأمة إلى حكم الله في النوازل والمشاكل، ثم خلفه صلى الله عليه وسلم في هذا الثغر العظيم و المقام الجليل الكريم، أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
فكانوا أئمة هداة مهتدين، يسيرون على نهجه صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، ثم تبعهم التابعون لهم بإحسان كلما مضى لهم جيل، تبعه على ذلك النهج جيل، فهم على أوضح حجة وأبين سبيل، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى به عاملاً عن عمله، وما زالت الأمة بخير ما قام علماؤها بهذا الثغر، ولا تزال الأمة بخير مادام قد وجد فيها من يبيّن الحلال والحرام، ويفصّل الشريعة والأحكام، يلتزم بذلك المنهج المفضي إلى الجنة دار السلام، ولو لم يكن لفضل الفتوى إلا عظيم البلوى لكفاها شرفاً وفضلاً.
فإن العلماء -رحمهم الله- يقولون: يستدل على فضل الشيء بعظيم أثره في الناس.
المَعْلَمَ الأول: إخلاص النية لله
فأول ما يجب عليه في خاصة نفسه وأهمها وأعظمها: إخلاص النية لله جل وعلا، فإياك أن تُسأل عن مسألة أو تُسأل عن حكم شرعي وتريد أن تجيب فيه أو تتكلم فيه أو تبينه للناس إلا وأنت مخلص لوجه الله جل وعلا.
أن تبين حكم الله لعباد الله وأنت ترجو ما عند الله جل وعلا، وبالإخلاص يكون التوفيق وتيسير الفتوى ونور التقوى، الذي هو فرقان بين الحق والباطل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) [الأنفال:29]، وعماد التقوى ولبّها وروحها وأساسها إخلاص النية لله جل وعلا.
ومن تكلم في المسائل، وحل المعضلات والمشاكل، وهو يرجو ما عند الله، فتح الله عليه في كلامه، وألهمه البصيرة في شريعته ونظامه، وكان موفقاً مسدداً ملهماً، ولا يزال المخلص يجد من الله معونة وكفاية للمئونة.
فبالإخلاص يعظم أجر البلوى، فإن الكلمة التي تخرج لوجه الله تصعد إلى الله وعليها نور.
لما أخبر الله تعالى أنه: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر:10]، فكل مسألة في الدين تكلمت فيها وأنت ترجو رحمة الله رب العالمين، تؤجر عليها، على حروفها، على كلماتها، على الخير الذي يكون بها.
المَعْلَمَ الثاني: البصيرة في العلم
فقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن فتوى الجهلاء ضلالة، وأن الأمة تضلّ إذا تقلد الفتوى فيها الجهلاء، والعكس بالعكس، وتهدَى إذا تقلد الفتوى فيها العلماء.
البصيرة: فمن هذه الساعة ولو بقي لك في هذا المعقل من معاقل الإسلام، لو بقيت لك سنة دراسية واحدة من هذه الساعة توطّن نفسك على زيادة العلم والتحري والبصيرة، علّك أن تنقل علماً نافعاً ينفعك الله به في الدين والدنيا والآخرة، تفتح قلبك وسمعك وفؤادك للعلم فتنهل منه، لا تنكَفّ عن قليل فيه ولا كثير، فالذي يريد تقلّد الفتوى يفتح قلبه لأنوار الوحي من الكتاب والسنة، ويتعطش لكل مسألة، ولا يقف أمام السائل، ويقول هذه مسألة لا أحتاج إليها، هذه مسألة لا أعمل بها، كل مسألة هيّئ من نفسك أنك غداً مسؤول عنها، في العقيدة، في الأحكام، في الآداب، والأخلاق.
المَعْلَمَ الثالث: الورع
وهو غذاء الفتوى وأساسها، فإذا سئلت عن أي أمر لا علم لك به، ولو سُئِلتَ على رؤوس الأشهاد تقول بكل عزة وإباء: الله أعلم.
وليكن عندك الفرح أن تقول في المسألة: الله أعلم، أكثر من فرحك أن تجيب عليها؛ لأنك إن قلت: الله أعلم، فقد سَلِمْتَ وسَلِمَ الناسُ منك، وإن قلت فيما لا علم لك فقد تحملت المؤونة، ولذلك قال بعض السلف: حق على من أفتى أن يقيم نفسه بين الجنة والنار، فينظر سبيله فيها، حق واجب وفرض عليه.
ولذلك كان من الداء والمقتلة للإنسان أن يجيب في كل ما سئل عنه؛ لأنه لا بد أن تكون هناك مسائل لم تطمئنّ بعد إلى قول فيها وتفتي به. قال ابن عباس وابن مسعود فيما أثر عنهما: (من هذا الذي يجيب الناس في كل ما سألوه أمجنون هو؟ أي: لا عقل عنده.
المَعْلَمَ الرابع: معرفة المصالح والمفاسد المترتبة على الفتوى
فقد تكون الفتوى من علمك، ولكن الجواب فيها يحدث مفسدة عظيمة على الأمة، فتتلطف وتحسن المخرج منها بجواب تعذر فيه إلى الله، ومع ذلك لا تقع الأمة به في فتنة.
ولذلك نبّه العلماء على أنه من آكد ما ينبغي على المفتي أن ينظر إلى أثر فتواه، فكم من فتاوى يسمعها العوامّ فيحملونها على غير المحامل، ويُحمّلون كلامها من التفسير ما لا تحتمل، فليس المهم أن تعرف المسألة وتعرف حكمها فقط، ولكن الأهم أن تعرف ما الذي يترتب على هذا السؤال؛ لأن الله بعث الرسل، وأنزل الكتب من أجل المصالح ودَرْء المفاسد.
فإذا أصبحت الفتوى تفضي إلى المفاسد، وتقطع عن العباد المصالح فليس ثم ما يوجب ذكرها في هذه الحالة الضيقة المخصوصة.
واقرأ في تراجم العلماء والسلف الصالح كيف كانوا يمتنعون في مواطن الفتن عمّا فيه مفسدة، فلا تجيب بين العوام إذا سئلت عن مسائل تورث عندهم الفتنة والشبهة ولا تحسن منها المخرج، فتشوش عليهم بذكر شيء أنت معذور في تركه أمام الله جلّ وعلا.
ولذلك قالوا: يحتاج المفتي إلى أمرين:
أ- علم الفتوى.
ب- فقه الفتوى.
فعلم الفتوى من ناحية المادة، وفقه الفتوى أن يلازم العلماء ويدرس فتاوى السلف الصالح والعلماء المهتدين، وكيف كانوا يحسنون التخلص من مواطن الفتن.
المَعْلَمَ الخامس: تحصيل الخشية من الله عز وجل
وهو الأساس العظيم للتوفيق والتسديد في الفتوى، فكل مسألة في الدين والشريعة تتكلم فيها، فاجعل الجنة والنار نصب عينيك، تخاف الله، لا تخاف أحداً سواه، ترجو رحمة الله ولا ترجو شيئاً عداه.
ولذلك قال بعض العلماء: لن يوفق الإنسان لتبليغ رسالة الله إلا بالخشية، وكلما وجدت الإنسان يصدع بالحق، ويقول الحق، ويأمر بالحق، ويهدي إلى الحق، فاعلم أن في قلبه من خشية الله على قدر ما وجدت فيه من الصدق والتبليغ لرسالة الله.
وكلما وجدت المفتي يبيّن حكم الله جل وعلا، ويُجّلّي الحقائق على أنصع ما تكون وأظهر ما تكون وأوضح ما تكون، فاعلم أن في قلبه من خشية الله على قدر ما وجدت من آثار فتواه من الوضوح.
((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ)) [الأحزاب:39]. قال بعض العلماء: إن الله قرن الخشية بالتبليغ للرسالة والأداء للأمانة، ولذلك لن يستطيع طالب علم أن يبلغ أمانته إلا بقوة خوف من الله، وكلما كمل خوفه كمل تبليغه لرسالة الله.
وانظر إلى حال طلاب العلم تجد ذلك جلياً ظاهراً، فبمجرد ما يرجع الشاب أو طالب العلم إلى قريته أو إلى بلده، وقلبه معمور بالخوف من الله، أن يسأله عن هذه الأمة، ويحاسبه عن هؤلاء القوم، وتجده على خوف ووجل، وجدته ناشراً للعلم، باذلاً له، فيخرج الخوف من الله ما عنده من العلم.
فتبليغ رسالة الله والفتوى عن الله والإخبار عن الله يحتاج إلى شيء من الخوف والخشية والمعاملة لله سبحانه وتعالى.
والذي يَجبن ويَضعف، ويهاب الخلق أكثر من هيبته للخالق، ويخشى المخلوق أكثر من خشيته للخالق، فإنه لا يأمن أن يحرف دين الله وشريعة الله، نسأل الله السلامة والعافية.
المَعْلَمَ السادس: التأني في فهم السؤال وتصوره
فلا يجوز للإنسان أن يفتي في مسألة لم يتصورها بعد، أو يتصورها على كلام إنسان لا يحسن فهمها، ومن هنا أنبّه على ما يقع فيه كثير من طلاب العلم من الاستعجال في الفتوى قبل معرفة حقائق أمورها وملابسات مشاكلها ومعضلاتها، ولذلك تجد العلماء يكثرون المراجعة للسائل والاستفهام من السائل، والاستيضاح منه، حتى يكون حكمهم للنازلة عن تصور كامل، فإذا سئلتَ عن مسألة، واحتمَلَتْ أوجهاً، أو احتملت احتمالات متعددة، فلا تتعجل حتى تسأل السائل هل مراده كذا؟. أم مراده كذا؟. وقد يقع اللبس في كلام السائل، فيعطيك ألفاظاً محتملة، وقد يأتيك السائل وهو يرغب في التحريم أو يرغب في التحليل، فيعطيك ألفاظاً تعينك على التحليل أو تعينك على التحريم، فالعواطف والمؤثرات الخارجية لصيغة السؤال ضعها جانباً، ولْينصبّ تصورك للسؤال بعينه، وأحسن فهم النازلة بذاتها، ثم بيّن حكم الله تعالى فيها، فحُسن التصور مهمّ، ولذلك أوصي طالب العلم إذا وجد اختلافاً بين العلماء في النوازل والمسائل أن ينظر على صيغة الأسئلة، فإنه سيجد للأسئلة وتصوير النازلة أثراً عظيماً في التأثير على المفتي.
ومن هنا أيضاً أنبّه على أنه إذا كان السائل يسألك عن شيء معين يعرفه المختصّون، فالأفضل أن تستبين ممن له خبرة وعلم بذلك التخصص، وأن لا تتعجل بحمل الجواب على ضوء إفادته قبل الرجوع إلى أهل الاختصاص.
وهنا أمور، منها: لو سألك عن أمر يتعلق بالأطباء، أو مسألة طبّيّة، فقال لك: يفعلون ويفعلون، فلا تتعجل، وتقول: الحكم كذا وكذا، قل: لا.. حتى أسمع من طبيب. يقول لك -مثلاً-: هناك عملية يموت فيها الإنسان، هل يجوز فعلها أو لا يجوز؟.
ليس من حقّ هذا السائل أن يصف العملية بكونها مفضية للهلاك أو مفضية للسلامة، فتقول: أنا لا أفتي في هذه العملية، وهذا التداوي أو هذا الدواء، حتى أسأل أهل الخبرة، هل الغالب فيه النفع، أو الغالب فيه الضرر؟.
المَعْلَمَ السابع: معرفة حال المستفتي
فينبغي على المفتي أن يكون على علم بالناس وأحوالهم، فمنهم المخادع، ومنهم الكذاب، ومنهم المغرض، ومنهم المفسد، فعليه أن يعرف أقدار الناس، وهذا يرجع إلى أصل السنة: من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل فيسأله عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، فيقول: (إيمان بالله)، ثم يسأله الثاني عن أحب الأعمال، فيقول: (الصلاة على وقتها)، ويسأله ثالث فيقول: (الجهاد في سبيل الله)، (حج مبرور)، قالوا: اختلف جوابه بحسب اختلاف أحوال السائلين.
الفصل الخامس : إجابات مُهِمّة عن أسئلة مُلِمّة
السؤال الأول
هناك مقالة تفشَّت بين بعض طلاب العلم: وهي أن الدراسة النظامية في الجامعة أو غيرها تنافي الإخلاص، فما هو قول فضيلتكم؟
الجواب:
هذه مسألة تشكل على كثير من طلاب العلم، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن ذلك ليس بصحيح؛ لأن هؤلاء التَبَس عليهم وجود فضل الدنيا مع العلم، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أنه إذا كان السبب الداعي للعمل عند الطالب هو وجه الله، وجاءت حظوظ الدنيا بالتبع، أن ذلك لا يؤثر ولا يقدح في الإخلاص.
من أدلة الكتاب:
أ-قول الله جل وعلا: ((وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)) [الأنفال:7]، لاحظ هؤلاء هم الذين قاتلوا يوم بدر وشهدوها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الباعث أول خروجهم طلب العير، فلما تغير الحال وأصبحوا إما العير وإما القتال، قال الله عز وجل عنهم: ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)) [الأنفال:7] .
فكانوا يتمنون أن يكون حظهم العير، ومع ذلك أنزل الله فيهم من الفضل ما لم ينزله في غيرهم، من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر فيهم: (وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم).
فهذا يدل على أنه إذا كان العلم أخروي وفيه نية دنيوية تابعة وليست الأصل انها لا تضر.
الخاتمة
فيا شباب الإسلام..
ويا طلاب العلم..
ويا ورثة الأئمة الأعلام..
إن ثغور الإسلام باكية..
إن منابر الإسلام شاكية..
إن ثغور الإسلام تنتظركم..
إن ثغور الإسلام تنتظر من طلاب العلم أن يسدوها، وأن يحموا حماها، وأن يغاروا لله وفي دين الله على ما فيها..
يا طلاب العلم.. مَن للحكمة والسنة والقرآن؟..
من للعقيدة والإيمان؟..
مَن يحمي حمَى (طاعة) الله المجيد؟..
مَن يبصر القلوب بالله؟..
إن وراءكم قلوباً تشتاق إلى لقياكم..
إن وراءكم أمماً تتعطش إلى الجلوس معكم..
إن وراءكم أمماً تنتظر منكم كلمة تدل على الله..
تنتظر منكم موعظة تذكر بالله..
إن وراءكم قلوب ضلّت عن السبيل، تنتظر منكم الهداية والسبيل..
إن وراءكم أمماً هي الخصوم لكم بين يدي الله..
0 komentar:
Posting Komentar